فصل: باب جامع ما جاء في أمر المدينة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة

كذا عند يحيى ترجمة هذا الباب وعند بن بكير في إجلاء اليهود من المدينة وعند القعنبي في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب‏.‏

1647- مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب قال أبو عمر أما قوله صلى الله عليه وسلم قاتل الله اليهود ولعن الله اليهود الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فقد روي مسندا من وجوه من حديث أبي هريرة وحديث عائشة وغيرها وهو عند مالك وغيره عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة وروي عن عائشة من وجوه قد ذكرت ذلك كله في كتاب التمهيد منها حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تذاكرن في مرضه كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرن من حسنها وتصاويرها وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم إذا مات الرجل الصالح عندهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله ومنها حديث حميد بن هلال عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي عليه أن يتخذ مسجدا قال أبو عمر لهذا الحديث -والله أعلم- ورواية عمر بن عبد العزيز له عن من رواه أمر في خلافته أن يجعل بنيان قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم محددا بركن واحد لئلا يستقبل القبر فيصلى إليه وقد احتج من كره الصلاة في المقبرة بهذا الحديث وبقوله عليه السلام إن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد وبقوله صلى الله عليه وسلم صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا وهذه الآثار قد عارضها قوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد وذكرنا منه في كتاب الصلاة من هذا الكتاب ما فيه كفاية والحمد لله كثيرا‏.‏

وأما قوله في حديث مالك في هذا الباب لا يبقين دينان بأرض العرب فروي مسندا من وجوه كثيرة ذكرنا في التمهيد منها حديث بن عباس‏.‏

وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن يحيى بن عمر قال حدثني علي بن حرب قال حدثني سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فتنازعوا عنده فقال لا ينبغي عندي التنازع ذروني وأمرهم بثلاث فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم والثالثة إما سكت عنها بن عباس وإما قالها فنسيتها يقوله سعيد بن جبير وقد ذكرنا في التمهيد حديث أبي عبيدة بن الجراح قال آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وإن شرار الناس ناس يتخذون القبور مساجد‏.‏

1648- مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب قال مالك قال بن شهاب ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر‏.‏

1649- قال مالك وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء‏.‏

وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق وإبل وجبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قال أبو عمر روى حديث بن شهاب هذا معمر عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع بأرض العرب أو قال بأرض الحجاز دينان قال ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت قال الزهري فكذلك أجلاهم عمر فجعل الحديث معمر لابن شهاب عن سعيد بن المسيب ولم يجعل فيه من كلام بن شهاب إلا قوله فلذلك أجلاهم عمر وروى سعيد بن داود الزبيدي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب أجلى يهود خيبر فقال له يهودي أتخرجنا وقد أقرنا محمد ‏!‏ فقال لهم عمر أتراني نسيت قوله صلى الله عليه وسلم كأني بك قد قلصت بك ناقتك ليلة بعد ليلة فقال اليهودي إنما كان هزلة من أبي القاسم قال عمر كلا والذي نفسي بيده لتخرجن‏.‏

وأما جزيرة العرب فذكر أحمد بن المعذل حدثني يعقوب بن المهدل يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري قال قال المغيرة بن عبد الرحمن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن مدنها وقرياتها‏.‏

وقال مالك بن أنس جزيرة العرب مكة والمدينة واليمامة واليمن‏.‏

وقال الشافعي جزيرة العرب التي أخرج عمر رضي الله عنه اليهود والنصارى منها مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها فأما اليمن فليس من جزيرة العرب قال أحمد بن المعذل وقال معن بن عيسى عن مالك جزيرة العرب منبت العرب وقد ذكرنا في التمهيد ما ذكره أبو عبيد عن أبي عبيدة وعن الأصمعي في جزيرة العرب وقال الواقدي عن أبي وجزة السعدي في ذلك واختصار ذلك أن الأصمعي قال جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول‏.‏

وأما في العرض فمن جده وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام وقال أبو عبيدة جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول‏.‏

وأما في العرض فمن بئر يبرين إلى منقطع السماوة وفي هذا المعنى زيادة في التمهيد في باب إسماعيل بن أبي حكيم وقيل لبلاد العرب جزيرة لإحاطة البحر والأنهار بها من أقصاها إلى البصرة‏.‏

باب جامع ما جاء في أمر المدينة

1650- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه قال أبو عمر قد مضى القول في معنى هذا الحديث في باب تحريم المدينة من هذا الكتاب‏.‏

1651- مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أن أسلم مولى عمر بن الخطاب أخبره أنه زار عبد الله بن عياش المخزومي فرأى عنده نبيذا وهو بطريق مكة فقال له أسلم إن هذا الشراب يحبه عمر بن الخطاب فحمل عبد الله بن عياش قدحا عظيما فجاء به إلى عمر بن الخطاب فوضعه في يديه فقربه عمر إلى فيه ثم رفع رأسه فقال عمر إن هذا لشراب طيب فشرب منه ثم ناوله رجلا عن يمينه فلما أدبر عبد الله ناداه عمر بن الخطاب فقال أأنت القائل لمكة خير من المدينة فقال عبد الله فقلت هي حرم الله وأمنه وفيها بيته فقال عمر لا أقول في بيت الله ولا في حرمه شيئا ثم قال عمر أأنت القائل لمكة خير من المدينة قال فقلت هي حرم الله وأمنه وفيها بيته فقال عمر لا أقول في حرم الله ولا في بيته شيئا ثم انصرف قال أبو عمر روى هذا الخبر بن بكير ويحيى بن يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم ورواه القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم لم يذكر فيه يحيى بن سعيد وقد تابع كل واحد منهما طائفة من رواة الموطأ‏.‏

وأما النبيذ الذي قال فيه عمر إن هذا الشراب طيب فقد مضى في كتاب الأشربة من هذا الديوان ما يفسر الطيب وغير الطيب وكل شراب حلو لا يسكر الكثير منه فهو الطيب وما أسكر فهو الخبيث لا الطيب‏.‏

وأما مناولة عمر من عن يمينه فضلة شرابه فهي السنة وسيأتي ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله ‏(‏عز وجل‏)‏‏.‏

وأما قول عمر لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أنت القائل لمكة خير من المدينة فقد ظن قوم أن ذلك حجة في تفضيل المدينة على مكة وأن ظاهر قول عمر هذا في تقريره وتوبيخه عبد الله بن عباس بذلك القول دليل على تفضيل عمر المدينة على مكة وهذا عندي ليس كما ظنوا وفي لفظ الحديث ما يدل على غير ما ظنوا من ذلك والله أعلم لأنه لم يقل من ذلك أنت القائل لمكة أفضل من المدينة وإنما قال له أنت القائل لمكة خير من المدينة وخاف منه عمر أن يمدح مكة ويزينها لمن هاجر منها فيدعوه ذلك إليها وخشي عبد الله بن عباس بن عمر في ذلك درته وسطوته ففزع إلى الفضل الذي لا ينكره عمر وجادله عما أراد منه فقال هي حرم الله وأمنه وفيها بيته يعني وليست كذلك المدينة وأقر له عمر أنه لا يقول في حرم الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وأمنه ولا في بيته شيئا وأعاد عليه عمر قوله فأعاد عليه عبد الله بن عباس من قوله ما لم ينكره كأنه قال له لم أسألك عن التفضيل ولا الفضائل وسكت لما سمع منه من فضل مكة ما ليس بالمدينة ولم يحتج معه إلى ذلك خيرات المدينة ومعلوم أن خيرات المدينة كانت حينئذ أكثر من رطبها وتمرها وحرثها ودروب العيش فيها أغزر لاجتماع الناس بها للمتاجر والمكاسب لأن الخير أكثر في البلاد الكبار وحيث الأئمة والسلطان فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا عندي معنى خبر عمر مع عبد الله بن عباس المخزومي والله تعالى أعلم ومن الدليل على أن لفظ خير ليس بمعنى أفضل ما روي أن عقيل بن أبي طالب وكان أحد الفصحاء لما أعطاه معاوية عطاء جزلا قال له من خير لك أنا أو أخوك فقال له أنت خير لي من أخي وأخي خير لنفسه منك ومعلوم أن أخاه علي بن أبي طالب كان عنده أفضل أهل زمانه ولكن معاوية كان خيرا له في دنياه وقد ذكر معاوية لابن عمر فقال كان أسود ممن كان قبله يعني الخلفاء قال وكانوا أفضل منه والدليل أيضا على صحة ما تأولناه على عمر في هذا الخبر ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني وأبو يحيى بن أبي ميسرة المكي بمكة قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني قال حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن سليمان بن عتيق قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فضله عليه بمائة صلاة‏.‏

وأما مالك رحمه الله فلم يختلف عنه أصحابه في أن المدينة أفضل من مكة ومن سائر البلاد وكان يقول مما خص الله عز وجل به المدينة من الخير أنها محفوفة بالشهداء وعلى أنقابها ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وهي دار الهجرة والسنة وبها كان ينزل القرآن يعني الفرائض والأحكام وبها أخيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واختارها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته فجعل بها قبره وبها أروضة من رياض الجنة قال أبو عمر في قول عبد الله بن عباس لعمر فيها حرم الله عز وجل وأمنه وفيها بيته ولم يقل هي حرم إبراهيم وترك عمر إنكار ذلك عليه دليل على صحة رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله عز وجل حرم مكة ولم يحرمها الناس‏.‏

باب ما جاء في الطاعون

1652- مالك عن بن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال بن عباس فقال عمر بن الخطاب ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم‏.‏

وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوبإ فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم اثنان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال عمر أو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فحمد الله عمر ثم انصرف قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد ما يستدل به من ألفاظ هذا الحديث وما يمكن استنباطه منها ونذكر ها هنا ما في ظاهره الذي سبق وذكر‏.‏

وأما اختلاف المهاجرين والأنصار في القدوم على الوباء فلكل واحد منهم معنى صحيح في أصول السنن المجتمع عليها من الكتاب والسنة وملاك ذلك كله الإيمان بالقدر وأن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه مع إباحة الأخذ بالحذر والحزم والفرار عن المهلكة الظاهرة وقد أحكمت السنة والحمد لله كثيرا ما قطع وجوه الاختلاف فلا يجوز لأحد أن يقدم على موضع طاعون لم يكن ساكنا فيه ولا يجوز له الفرار عنه إذا كان قد نزل في وطنه وموضع سكناه وقد ذكرنا في التمهيد خبرا عن الزهري قال أصاب الناس الطاعون بالجابية فقال عمرو بن العاص تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار فقام معاذ بن جبل فقال لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هو رحمة لهذه الأمة اللهم فاذكر معاذا في من تذكره في هذه الرحمة قال أبو عمر مات معاذ في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة وروى شعبة عن يزيد بن جبير قال سمعت شرحبيل بن حسنة يحدث أن عمرو بن العاص قال وقد وقع الطاعون بالشام إنه رجس فتفرقوا عنه فقال شرحبيل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم فلا تفرقوا عنه قال أبو عمر أظن قوله ودعوة نبيكم قوله صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون وقد ذكرنا هذا الخبر من حديث عائشة في كتاب الجنائز عند قوله صلى الله عليه وسلم والمطعون شهيد وقالت عائشة يا رسول الله الطعن قد عرفنا فما الطاعون قال غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط قال أبو عمر وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله من البدن وروينا أن زيادا كتب إلى معاوية إني قد ضبطت العراق بيميني وشمالي فارغة فأخبر بذلك بن عمر فقال مروا العجائز يدعون الله عليه ففعلن فخرج بأصبعه طاعون فمات منه وروي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف وروينا عن بن مسعود أنه قال الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار أما الفار فيقول فررت فنجوت‏.‏

وأما المقيم فيقول أقمت فمت وإنما فر من لم يجئ أجله وقام فمات من جاء أجله وروينا عن عمر من وجوه قد ذكرناها في التمهيد أنه ندم على انصرافه عن الطاعون لأنه قد كان نزل بالشام ودخلها يومئذ وروى هشام بن سعد عن عروة بن رويم عن قاسم عن عبد الله بن عمرو قال جئت عمر حين قدم من الشام فسمعته يقول اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ يعني حين رجع من أجل الوبإ قال عروة بن رويم وبلغنا أنه كتب إلى عامله بالشام إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب إلي أخرج إليه وقال خليفة بن خياط وفي سنة سبع عشرة خرج عمر بن الخطاب إلى الشام واستخلف على المدينة زيد بن ثابت وانصرف من سرغ وبها الطاعون وقال ضمرة عن بن شوذب عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي قال قلت لمطرف بن الشخير ما تقول - رحمك الله - في الفرار من الطاعون قال هو القدر تخافونه وليس منه بد وقد ذكرنا أخبار هذا الباب كلها بالأسانيد في التمهيد وأخبارا غيرها في معناها والحمد لله كثيرا منها حديث سعيد بن جبير عن بن عباس في قوله عز وجل ‏(‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت‏)‏ ‏[‏البقرة 243‏]‏‏.‏

قالوا كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وقال عمرو بن دينار في هذه الآية وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس فمن خرج أكثر ممن بقي فنجا الذين خرجوا وهلك الذين أقاموا فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم وقال المدائني إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت قال وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد بن رباط من الطاعون فقال إبراهيم بن علي القعنبي‏:‏

ولما استفز الموت كل مكذب *** صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

وقد أحسن أبو العتاهية في قوله‏:‏

كل يوافي به القضاء إلى الموت *** ويوفيه رزقه كملا

كل فقد أمهله أمل *** يلهي ولكن خلفه الأجلا

يا بؤس للغافل المطيع *** عن أي عظيم من أمره غفلا

1653- مالك عن محمد بن المنكدر وعن سالم بن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال مالك قال أبو النضر لا يخرجكم إلا فرار منه هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة مذكور فيه أبو النضر مع بن المنكدر وما خالف فيه أبو النصر من اللفظ ورواه القعنبي وطائفة عن مالك عن محمد بن المنكدر عن عامر بن سعد أن أسامة بن زيد أخبره لم يذكر سعدا ولا ذكر أبا النضر في الإسناد ولا لفظه في الحديث وقد ذكرنا الاختلاف في إسناده في التمهيد ومن جعل الحديث لسعد عن أسامة ومن جعله لسعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن جعله لأسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما من جعل الحديث لسعد عن أسامة فقد وهم واللن أعلم وقد روي لسعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأسامة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعه عامر بن سعد عن أبيه ومن أسامة جميعا والأكثر الأغلب أنه لعامر بن سعد عن أسامة وهو الأصح إن شاء الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وقد رواه إبراهيم بن سعد أيضا عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد‏.‏

وأما رواية أبي النضر لا يخرجكم إلا فرار منه فقد جعله جماعة من أهل العلم غلطا وإحالة للمعنى وقال جماعة من أهل العلم بالنحو وتصاريفه إن دخول إلا في هذا الموضع إنما هو لإيجاب بعض ما نفى بالجملة فكأنه قال تخرجوا منها يعني البلدة التي وقع الطاعون بها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا والنصب ها هنا بمعنى الحال لا بمعنى الاستثناء والله ‏(‏عز وجل‏)‏ أعلم أي إذا كان خروجكم فرارا من الطاعون فلا تخرجوا منها وفي ذلك إباحة الخروج من موضع الطاعون إذا لم يكن الخروج قصدا إلى الفرار من الطاعون وقد روى بن وهب عن مالك عن أبي النضر حديثه فقال فيه كما قال في حديث بن المنكدر لا غير وقد ذكرنا من طرق هذا الحديث في التمهيد ما يشفي في لفظه وإسناده وما أعلم أحدا جاء بهذا اللفظ إلا أبا النضر على اختلاف فيه عنه مذكور كل ذلك في التمهيد والحمد لله كثيرا‏.‏

1654- مالك عن أبن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فرجع عمر بن الخطاب من سرغ فهذا الحديث قد اقتضى معناه الحديث الذي قبله ولم يبق للقول فيه مدخل‏.‏

1655- مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس من سرغ عن حديث عبد الرحمن بن عوف قال أبو عمر هذا الحديث بين أن رجوع عمر بن الخطاب من سرغ لم يكن من قول مشيخة الفتح وإنما كان لما حدثه به عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق الذي يليق بعمر ونظرائه وما كان عمر مع الاختلاف ليؤثر رأيا على رأي بلا حجة وما كان لينقاد إلى غير السنة وإنما كانت مشورته لهم والله عز وجل أعلم ليجد عندهم علما من النبي صلى الله عليه وسلم فكثرا ما كان يفعل ذلك في كل ما كان ينزل به ومعروف عنه ومشهور عنه تفضيل أهل السوابق في الرأي وفي العطاء وفي المنزلة من مجلسه والقرب منه وكان لا يقيم لمشيخة الفتح وزنا إلا في العمالة والإمارة ومعاني الدنيا ويقول ما كنت لأدنس أهل بدر بالولاية وهذا كله يدل على صحة قول سالم أنه لم ينصرف عن الطاعون من سرغ إلا لحديث عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بغير ذلك والله تعالى أعلم‏.‏

1656- مالك أنه قال بلغني أن عمر بن الخطاب قال لبيت بركبة أحب إلي من عشرة أبيات بالشام قال أبو عمر قال مالك يريد لطول الإعمار والبقاء ولشدة الوباء بالشام وهذا الكلام في الموطأ عند بعض رواته ومعناه عندي أن الشام كثيرة الأمراض والوباء والأسقام وأن ركبة أرض مصحة طيبة الهواء قليلة الأمراض والوباء لأن الأمراض تنقص من العمر أو تزيد في البقاء أو تؤخر الأجل وقال بن وضاح ركبة موضع بين الطائف ومكة في طريق العراق وقال غيره ركبة واد من أودية الطائف وقد روي عن عمر أنه قال لأن أعمل عشر خطايا بركبة أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة وهذا يدل على فضل مكة وعلى أن الحسنات تضاعف فيها السيئات وقد رأى بعض العلماء الزيادة في دية الأنفس والجراح في البلد الحرام والشهر الحرام ورأوا أن لا يقتص ممن جنى جناية أو أصاب حدا ولحق بالحرم حتى يخرج من الحرام وأجمعوا أن من قتل في الحرم وكذلك من أتى حدا أقيم عليه في الحرم وقال الله عز وجل ‏(‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏)‏ ‏[‏الحج 25‏]‏‏.‏

قيل الحرم وقيل المسجد الحرام‏.‏

كتاب القدر

باب النهي عن القول بالقدر

1657- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق قال أبو عمر إلى هنا انتهى حديث مالك ورواه بن عيينة عن أبي الزناد بإسناده وزاد فيه قبل أن أخلق بأربعين سنة وكذلك قال طاوس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق شتى منها حديث محمد بن عمرو ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ورواه بن شهاب فاختلف عليه فيه فمن أصحابه من جعل فيه عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومنهم من رواه عنه عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ومنهم من يرويه عنه عن سعيد بن المسيب ورواه معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة وكلهم رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي من حديث عمر بن الخطاب وهو حسن صحيح الألفاظ والسياقة ورواه بن وهب قال أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام قال يا رب أرني أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فأراه الله آدم فقال له أنت آدم قال نعم قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر ملائكته فسجدوا لك قال نعم قال فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة قال له آدم من أنت قال أنا موسى قال أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه قال نعم قال فما وجدت في كتاب الله الذي أنزل عليك أن ذلك في كتاب الله قبل أن أخلق قال نعم قال أفتلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل قال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى قال أبو عمر هذا الحديث عند جماعة أهل العلم بالحديث صحيح من جهة الإسناد وكلهم يرويه ويقر بصحته ويحتج به أهل الحديث والفقه وهم أهل السنة في إثبات قدم علم الله ‏(‏عز وجل ذكره‏)‏ وسواء منهم من قال خبر الواحد يوجب دون العلم ومن قال العمل والعلم كلهم يحتج به فيما ذكرنا لأنه خبر جاء مجيئا متواترا فاشيا‏.‏

وأما أهل البدع فينكرونه ويدفعونه ويعترضون فيه بدروب من القول كرهت ذكر ذلك لأن كتابنا هذا كتاب سنة واتباع لا كتاب جدال وابتداع وفي هذا الحديث دليل على أن الله ‏(‏عز وجل‏)‏ قد سبق في علمه ما يكون وأنه في كتاب مسطور جرى القلم فيه بما يكون إلى آخر الأبد وأن العباد لا يعملون إلا فيما قد علمه الله - عز وجل - وقضى به وقدره وقد روينا أن سلمان الفارسي سئل عن الإيمان بالقدر فقال إذا علم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لن يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فذلك الإيمان بالقدر فروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن يعلى بن مرة أن أصحاب علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ قالوا إن هذا الرجل في حرب وإلى جنب عدو وإنا لا نأمن أن يغتال فليحرسه منا كل ليلة عشرة وكان علي إذا صلى العشاء لصق بقبلة المسجد فيصلي ما شاء الله عز وجل أن يصلي ثم ينصرف إلى أهله فصلى ذات ليلة ثم انصرف فرآهم فقال ما أجلسكم هنا هذه الساعة فقالوا أجلسنا نتحدث فقال لتخبرني فأخبروه فقال أمن أهل الأرض تحرسوني أم من أهل السماء فقالوا نحن أهون على الله - عز وجل - من أن نحرسك من أهل السماء ولكن نحرسك من أهل الأرض قال فلا تفعلوا فإنه إذا قضي الأمر من السماء علمه أهل الأرض وإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وروينا أن الناس لما خاضوا في القدر بالبصرة اجتمع مسلم بن يسار ورفيع أبو العالية فقال أحدهما لصاحبه تعال ننظر في ما خاض الناس فيه من هذا الأمر فقعدا ونظرا فاتفق رأيهما أنه يكفي المؤمن من هذا الأمر أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأنه مجزي بعمله وروينا عن روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال ما ينكر هؤلاء أن يكون الله - عز وجل - علم علما فجعله كتابا أخبرنا خلف بن قاسم قال أخبرنا الحسن بن رشيق قال حدثني محمد بن يحيى الفارسي قال سمعت الربيع بن سليمان يقول انحدر علينا الشافعي يوما من درجته وقوم يتجادلون في القدر فقال لهم إما أن تقوموا عنا وإما أن تجاورونا بخير ثم قال لأن يلقى الله - عز وجل - العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء قال وسمعت الربيع يقول قال الشافعي قال الله ‏(‏عز وجل‏)‏ في كتابه العزيز ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏ ‏[‏الإنسان 30‏]‏‏.‏

فأعلم الله عز وجل خلقه أن المشيئة له دون خلقه وأن لا مشيئة لهم إلا أن يشاء الله ‏(‏عز وجل‏)‏ قال الربيع قال لي الشافعي لا تصل خلف القدري وإني أكره الصلاة خلفه‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني عيينة بن المنهال قال قال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع ما تقول في القضاء والقدر قال أيها الأمير إن الله تبارك وتعالى لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره وإنما يسألهم عن أعمالهم وروينا أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمرهم به فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك‏.‏

وأما قوله في الحديث عن آدم عليه السلام أفتلومني على أمر قد قدر علي فهو خصوص لآدم -عليه السلام- لأن ذلك إنما كان منه ومن موسى عليهما السلام بعد أن ثبت على آدم وبعد أن تلقى من ربه كلمات فتاب عليه من ذنبه في أكل الشجرة وقد أجمع العلماء على أنه غير جائز لأحد أن يجعله حجة إذا أتى ما نهاه الله عنه وحرمه عليه أن يحتج بمثل هذا فيقول أتلومني على أن قتلت وقد سبق في علم الله أن أقتل وتلومني في أن أسرق أو أزني أو أظلم أو أجور وقد سبق ذلك علي في علم الله تعالى وقدره وهذا ما لا يسوغ لأحد أن يجعله حجة لنفسه والأمة مجتمعة على أنه جائز لوم من أتى ما يلام عليه من معاصي ربه وذمه على ذلك كما أنهم مجمعون على حمد من أطاع ربه وأتى من الأمور المحمودة ما يحمد عليه وقد روى بن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال إنما كان ذلك من آدم لموسى بعد أن تيب على آدم قال أبو عمر التقاء آدم وموسى يمكن أن يكون كما قال بن وهب يمكن أن يريه الله إياه وهو حي ويمكن أن يكونا التقت أرواحهما وعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعلم به خبر السماء في غير ذلك وهذا ومثله مما لا يطاق فيه التكييف وإنما فيه التصديق والتسليم وبالله التوفيق‏.‏

1658- مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ‏(‏وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غفلين‏)‏ ‏[‏الأعراف 172‏]‏‏.‏

فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية وقال خلفت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ‏!‏ ففيم العمل قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار قال أبو عمر لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث وهو حديث منقطع لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطب بينهما نعيم بن ربيعة هذا إن صح لأن الذي رواه عن زيد بن أنيسة فذكر فيه نعيم بن ربيعة ليس هو أحفظ من مالك ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد وإنما هو رجل مدني مجهول حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني أحمد بن زهير قال قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف قال أبو عمر هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة من حديث عمر بن الخطاب وغيره وممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه في القدر علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وبن عباس وبن عمر وأبو هريرة وسعيد الخدري وأبو سريحة الغفاري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاصي وذو اللحية الكلابي وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة بن جعشم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وقد ذكرنا ما استحسنا من طرق أحاديثهم في التمهيد ومن أحسنها حديث علي رواه منصور والأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه وقال ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار فقالوا يا رسول الله ‏!‏ فلم نعمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ ‏(‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى‏.‏

وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ‏)‏ الليل‏.‏

5- 10 وقد ذكرنا هذا الحديث ببعض أسانيده في التمهيد ومثله حديث عمران بن حصين حدثني أحمد بن فتح وعبد الرحمن بن يحيى قالا أخبرنا حمزة بن محمد قال حدثني سليمان بن الحسن البصري بالبصرة قال حدثني عبيد الله بن معاذ قال حدثني أبي قال حدثني سليمان بن حيان قال حدثني عن يزيد الرشك عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن حصين قال قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فما يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له قال حمزة هذا حديث صحيح رواه جماعة من حديث يزيد الرشك منهم بن شعبة الحجاج وحماد بن زيد وعبد الوارث بن سعيد‏.‏

وحدثني إبراهيم بن شاكر قال حدثني عبد الله بن محمد بن عثمان قال حدثني سعيد بن خمير وسعيد بن عثمان قالا حدثني أحمد بن عبد الله بن صالح قال أخبرنا عثمان بن عمر قال أخبرنا عزرة بن ثابت عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدئلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم أو فيما يستقبلوك مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة قلت لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم وقال فهل يكون شيء من ذلك ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت إنه ليس شيء إلا خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال سددك الله إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك إن رجلا من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة قال لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم قال فلم نعمل إذن فقال من خلقه الله لواحدة من المنزلتين فهو يستعمل لها وتصديق ذلك في كتاب الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‏)‏ ‏[‏الشمس 6 - 7‏]‏ قال أبو عمر قال الله تعالى ‏(‏فالتقى الماء على أمر قد قدر‏)‏ ‏[‏القمر 12‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏وكان أمر الله قدرا مقدورا‏)‏ الأحزاب وقال العلماء والحكماء قديما القدر سر الله فلا تنظروا فيه فلو شاء الله ألا يعصى ما عصاه أحد فالعباد أدق شأنا وأحقر من أن يعصوا الله إلا بما يريد وقد روي عن الحسن أنه قال لو شاء الله أن لا يعصى ما خلق إبليس وقال مطرف بن الشخير لو كان الخير في يد أحد ما استطاع أن يجعله في قلبه حتى يكون الله ‏(‏عز وجل‏)‏ هو الذي يجعله فيه قال وجدت بن آدم ملقى بين يدى الله والشيطان فإن اختاره الله إليه نجا وإن خلا بينه وبين الشيطان ذهب به ولقد أحسن القائل حيث قال‏:‏

ليس لله العظيم ند *** وهذه الأقدار لا ترد

لهن وقت ولهن حد *** مؤخر بعض وبعض نقد

وليس من هذا وهذا بد *** وليس محتوما لحي خلد

وفي الحديث المرفوع إذا أراد الله ‏(‏عز وجل‏)‏ بعبد خيرا سلك في قلبه اليقين والتصديق وإذا أراد الله ‏(‏عز وجل‏)‏ بعبده شرا سلك في قلبه الريبة والتكذيب وقال الله عز وجل ‏(‏كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به‏)‏ ‏[‏الحجر 12‏]‏‏.‏

13 وقال الله عز وجل ‏(‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ويهدى من يشاء‏)‏ ‏[‏النحل 93‏]‏‏.‏ وقال الله عز وجل ‏(‏إن هي الا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء‏)‏ ‏[‏الأعراف 155‏]‏‏.‏

وقال الفضل الرقاشي لإياس بن معاوية يا أبا وائلة ‏!‏ ما تقول في هذا الكلام الذي أكثر الناس فيه يعني القدر قال إن أقررت بالعلم خصمت وإن أنكرت كفرت وقال الأوزاعي - رحمه الله - هلك عبادنا وخيارنا في هذا الرأي يعني القدر وسمع بن عباس رجلين يختصمان في القدر فقال ما منكما إلا زائغ وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال أول ما تكلم به القدرية أن جاء رجل فقال كان من قدر الله ‏(‏عز وجل‏)‏ أن شررة طارت فأحرقت الكعبة فقال آخر ليس من قدر الله أن يحرق الكعبة قال أبو عمر قد أكثر أهل الحديث من تخريج الآثار في هذا الباب وأكثر المتكلمون فيه من الكلام والجدال‏.‏

وأما أهل السنة فمجتمعون على الإيمان بالقدر على ما جاء في هذه الآثار ومثله من ذلك وعلى اعتقاد معانيها وترك المجادلة فيها حدثني محمد بن زكريا قال حدثني أحمد بن سعيد قال حدثني أحمد بن خالد قال مروان بن عبد الملك قال حدثني محمد بن بشار قال حدثني وكيع قال حدثني سفيان عن محمد بن جحادة عن قتادة عن أبي السوار العدوي عن حسن بن علي قال رفع الكتاب وجف القلم وأمور تقضى في كتاب قد خلا قال‏.‏

وحدثني مروان بن عبد الملك قال حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال حدثني المعتمر بن سليمان عن أبيه قال أما والله لو كشف الغطاء لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد وروى حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد قال كان الحسن إذا قرأ هذه الآية ‏(‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهتكم‏)‏ ‏[‏النجم 32‏]‏‏.‏

قال علم الله عز وجل كل نفس ما هي عاملة وإلى ما هي صائرة وروى أبو حاتم السجستاني عن الأصمعي قال سألت أعرابيا عن القدر فقال ذلك علم اختصمت فيه الظنون وتغالب فيه المختلفون والواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق فيه من علمه قال أبو عمر أحسن ما رأيت رجزا في معنى القدر قول ذي النون إبراهيم الإخميني‏:‏

قدر ما شاء كيف شاء *** ولم يطلع على علم غيبه بشرا

ويرى من العباد منفردا *** محتجبا في السماء ليس يرى

ثم جرى بالذي قضى قلم *** أجراه في اللوح ربنا فجرى

لا خير في كثرة الجدال ولا *** في من تعدى فأنكر القدر

من يهده الله لن يضل ومن *** يضلل فلن يهتدي وقد خسرا

دعوته للعباد شاملة *** وخص بالخير منهم نفرا

قال أبو عمر قد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى ‏(‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏)‏ الذريات 56 وروي عن بن عباس إلا ليعبدوني قال ليقروا بالعبودية طوعا وكرها وقال مجاهد وبن جريج إلا ليعرفوني وقال الضحاك بن مزاحم هي آية عظيمة عامة في المنطق خاصة في المؤمنين‏.‏

وقال الشافعي هي خاصة يعني أنه خلق الأنبياء والمؤمنين لعبادته قال والدليل على خصوصها قوله ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏ ‏[‏الإنسان 30‏]‏‏.‏

فلن يكون بخلقه مشيئة إلا أن يشاء الله ومن أحسن ما قيل من النظم في قدم العمل وأن ما يكون من خلق الله فقد سبق العلم به وجف القلم به وأنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاء لا شاء غيره قول الشافعي - رضي الله عنه - رويناه من طرق عن المزني وعن الربيع عنه أنه قال في أبيات له‏:‏

فما شئت كان وإن لم أشأ *** وما شئت وإن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت *** وفي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت *** وهذا أعنت وذا لم تعن

فمنهم شقي ومنهم سعيد *** ومنهم قبيح ومنهم حسن

ومنهم فقير ومنهم غني *** وكل بأعماله مرتهن

قال أبو عمر كل ما في هذه الأبيات معتقد أهل السنة ومذهبهم في القدر لا يختلفون فيه وهو أصل ما يبنون في ذلك عليه‏.‏

1659- مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه قال أبو عمر هذا قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا من حديث أبي هريرة وحديث عمرو بن عوف المزني وقد ذكرنا ذلك في التمهيد حدثني عبد الرحمن بن مروان قال حدثني أحمد بن سليمان قال حدثني عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثني داود بن عمرو الضبي قال حدثني صالح بن موسى الطلحي قال حدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خلفت فيكم اثنتين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي قال أبو عمر الهدي كل الهدي في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي المبنية لمراد كتاب الله إذا أشكل ظاهره أبانت السنة عن باطنه وعن مراد الله منه والجدال في ما تعتقده الأفئدة من الضلال‏.‏

1660- مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني أنه قال أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز هكذا روى يحيى هذا الحديث على الشك في تقديم إحدى اللفظتين وتابعه بن بكير وأبو مصعب ورواه بن وهب والقعنبي فلم يزيدا على قول طاوس أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر ولم يذكرا حديث بن عمر المرفوع وأكثر رواة الموطأ يروونه كما روى يحيى وهو حديث غريب من حديث طاوس عن بن عمر لا أعلمه روي من غير هذا الوجه وهو صحيح قال الله عز وجل ‏(‏إنا كل شيء خلقه بقدر‏)‏ ‏[‏القمر 49‏]‏‏.‏ وقال تعالى ‏(‏وما تشاءون إلا أن يشاء الله‏)‏ ‏[‏الإنسان 30‏]‏‏.‏

فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن يتقدمها مشيئة الله تعالى وإنما تجري العباد فيما سبق من علم الله ‏(‏عز وجل‏)‏ والقدر سر الله لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال والحجاج مرتجة مغلقة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وقد تواترت الآثار عن السلف الصالح بالنهي عن الجدال فيه والاستسلام له والإيمان به أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال أخبرنا أحمد بن سعيد قال حدثني بن الأعرابي قال حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثني الحسن بن علي الحلواني قال أملى علي علي بن المديني قال سألت عبد الرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي كل شيء بقدر والطاعة والمعصية بقدر وقد أعظم الفرية من قال إن المعاصي ليست بقدر قال علي قال لي عبد الرحمن بن مهدي العلم والقدر والكتاب سواء ثم عرضت كلام عبد الرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد القطان فقال لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير وقد روي من غير ما وجه عن بن مسعود أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا‏.‏

1661- مالك عن زياد بن سعيد عن عمرو بن دينار أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته إن الله هو الهادي والفاتن قال أبو عمر هذا مأخوذ من قول الله ‏(‏تعالى ‏)‏ ‏(‏يضل من يشاء ويهدى من يشاء‏)‏ ‏[‏الرعد 27‏]‏‏.‏

وقوله ‏(‏عز وجل‏)‏ حاكيا عن نبيه نوح ‏(‏عليه السلام‏)‏ ‏(‏ولا ينفعكم نصحى إن أردت لكم إن كان الله يريد أن يغويكم‏)‏ ‏[‏هود 34‏]‏‏.‏

وقال ‏(‏تبارك اسمه‏)‏ ‏(‏ولو شاء لهدكم أجمعين‏)‏ ‏[‏الأنعام 149‏]‏‏.‏

ولا يكون في ملك الله إلا ما يريد وما ربك بظلام للعبيد روينا عن عبد العزيز بن أبي رواد قال سمعت عطاء بن أبي رباح يقول كنت عند بن عباس فأتاه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه احسن إلي أو ظلمني فقال بن عباس إن كان الهدى شيئا لك عنده فمنعكه فقد ظلمك وإن كان الهدى هدى الله يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئا ولا تجالسني بعده وقد روينا أن غيلان القدري وقف بربيعة فقال له يا أبا عثمان ‏!‏ أرأيت الذي منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلى أم أساء فقال له ربيعة إن كان منعك شيئا هو لك فقد ظلمك وإن كان فضله يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئا فهذا أخذه ربيعة من كلام بن عباس وقال غيلان لربيعة أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى قال وأنت تزعم أن الله يعصى قسرا‏.‏

1662- مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك أنه قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت رأيي أن تستتيبهم فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأي قال مالك وذلك رأيي قال أبو عمر هو مذهب عمر بن عبد العزيز وقد زعم قوم أنه قتل غيلانا القدري وصلبه وهذا جهل بعلم أيام الناس وإنما الصحيح أن عمر لما ناظره دعا عليه وقال ما أظنك تموت إلا مصلوبا فقتله هشام - لعنه الله - وصلبه لأنه خرج مع زيد بن علي بن حسين بن علي ومذهب مالك وأصحابه أن القدرية يستتابون قيل لمالك كيف يستتابون قال يقال لهم اتركوا ما أنتم ما أنتم عليه وانزعوا عنه‏.‏

وقال مالك لا يصلى عليهم ولا يسلم على أهل القدر ولا على أهل الأهواء كلهم ولا يصلى خلفهم ولا تقبل شهادتهم قال أبو عمر أما قوله لا يصلى خلفهم فإن الإمامة يتخير لها أهل الكمال في الدين من أهل التلاوة والفقه هذا في الإمام الراتب‏.‏

وأما قوله لا يصلى عليهم فإنه يريد لا يصلى عليهم أئمة الدين وأهل العلم لأن ذلك زجر لهم وخزي لهم لابتداعهم رجاء أن ينتهوا عن مذهبهم وكذلك ترك ابتداء السلام عليهم‏.‏

وأما أن تترك الصلاة عليهم جملة إذا ماتوا فلا بل السنة المجتمع عليها أن يصلى على كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله مبتدعا كان أو مرتكبا للكبائر ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أئمة الفتوى يقول في ذلك بقول مالك وقد ذكرنا أقاويل العلماء في قبول شهادتهم في كتاب الشهادات وأن مالكا شذ عنهم في ذلك إلا أن أحمد بن حنبل قال ما تعجبني شهادة الجهمية ولا الرافضة ولا القدرية قال إسحاق وكذلك كل صاحب بدعة قال أبو عمر اتفق بن أبي ليلى وبن شبرمة وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وعثمان التبي وداود والطبري وسائر من تكلم في الفقه إلا مالكا وطائفة من أصحابه على قبول شهادة أهل البدع القدرية وغيرهم إذا كانوا عدولا ولا يستحلون الزور ولا يشهد بعضهم على تصديق بعض في خبره ويمينه كما تصنع الخطابية قال الشافعي وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد في دخول النار على الذنب إن لم يتب منه أولى بالقبول من شهادة من يستخف بالذنوب قال أبو عمر كل من يجيز شهادتهم لا يرى استتابتهم ولا عرضهم على السيف والله أعلم‏.‏